خرجت المعزية الأخيرة ، ودعتها عند الباب أشكر لها تجشمها الحضور كان الليل قد أرخى سدوله ، وتكاثفت حجب الظلام في الفراغ الممتد أمام باب الدار ، أغلقت الباب خلف صديقتي ، وأسرعت لأطفئ أنوار كل البيت ، ورحت أتجول في الظلام في أركان بيت أعرف كل ملامحه ، فقد صنعت تلك الملامح بيدي ، بأحداث عمري ، تلك اللوحة التي رسمتها صغيرتي الكبيرة ، اعرف تفاصيل ألوانها ، وذلك المفرش الذي حكته بيدي ، مصحف زوجي ونظارته ، أوراق ابنتي …
لا أدري لماذا استهواني النظر إلى هذا المكان في الظلام ، هل أريد أن أحاكي ظلمة الفضاء المحيط ؟
هل أرغب أن أعيش مثل ما يعيش أهلى هناك ، حيث لا ماء ولا كهرباء .
هل ابحث عن ساعة هدوء بعد يوم عاصف . أريح فيها سمع وبصرى ، لاركز طاقتي في خيالي ، واستجمع أكبر عدد من الصور لأخزنها ، فليس ثمة صور جديدة ستأتي بعد اليوم
أم أننى كنت أحتاج هذا الظلام لأرى ما بداخلى ، فحجب الرؤية عما يحيط يساعدنا في رؤوية داخلنا بصفاء أكثر ، كم كنت بحاجة لأن أتعرف على ذاتي الجديدة , فبعد هذا الجرح الغائر لابد أن ملامحي تغيرت .
عندما يفقد الانسان رفيق دربه ، يفقد معه بعض نفسه ، هذه حقيقة . فكيف بي وقد فقدت رفيقتين دفعة واحدة .
وتربعت في ظلام الصالة أسندت ظهري لجدارها الكبير ، ورحت أحدق في الظلام ، هل حقا رحلتا ؟
رحلتا معاً ، هل كانتا على موعد ؟ وضرت كفا بكف ( فعلنها ثانية) ، كنا ونحن صغار يحلو لهما أن تختفيان عني ، تعتزلان في ركن قصي تتحدثان ، تتشاجران ، وكنت دائما أنا اقف وحيدة على جانب الحدث ارقب صفاء العلاقة بينهما أو تكدرها ، على حسب مزاج اللعب ، وكنت أحيانا أتطلع أن أكون جزءا من الحدث ، جزءا من اللعبة ، وفي أحيان أخرى أسعد أنني غير منخرطة في ذلك كله ، ويعجبني أن أبقى أنا الصغيرة التي تقف على الحياد ، والتي علاقتها متساوية مع كل الأطراف ، حتى ولو جعل ذلك حياتي باهتة ليس فيها ذلك التأجج الذي كان يعتمل هناك بينهما .
وكبرنا قليلاً ، وظلت العلاقة بيني وبينهما على نحو ما كنا في أيام الطفولة ، فقد كبرن ونضجن سريعاَ ،فتزوجن وأنجبن ، وأنا مازلت أحمل جديلتين على طرفي رأسي ، أقف جانباً ارقب تلك البهارج والزينات والملابس الجميلة ، وأنا مثقلة بحمل كتبي من عام دراسي إلى عام دراسي آخر ، كنت من عالم غير عالمهم ، ولكني كنت دائماً معهم ، كانتا تتسابقان دائما تتنافسان أحياناً ، وكنت أنا أرقب عن كثب ما يدور بينهما ، ولا أرى في ذلك إلا غلاف الحب ، وجوهر علاقة ود عميقة تمنح حياة كل منا بريق بهجة لا يمكن أن يخفى على أحد ، ولا أدري كيف صار ذلك الاختلاف بيننا عامل تجاذب ، فصرت القريبة رغم البعد ، المتفهمة رغم الاختلاف ، وصرت كلما شعرت برتابة حياتي ، وملل في عمري أقفز إلي بيت واحدة منهما ، لأجد نفسي في عالم مختلف ، هموم لم أصل إليها بعد ، فجدائل حبهم كانت تصعد بي عالياً عن كل هموم حياتي ، لمسة سحرية من لون مختلف تجعل لوحة عمري أجمل ، تجعلني أبصر ألواناً من الحب لا أراه إلا عندهما ، ولم تستطع الغربة أن تفرق بيننا ، ولا أن تخفت ذلك الألق الجميل الذي كان يوشي تلك العلاقة ، التي تنجدل فيها ذكريات الطفولة ، بأواصر القرابة جدائل الحب ، لتجعل حياتنا أجمل .
واليوم هاهما رحلتا , وتركنني وحدى أحدق في الفراغ المظلم .
حتى ذلك الصوت الضعيف الذي ينساب من سماعة الهاتف لم أعد أحلم أن أسمعه ، تلك الدعوات التي كانت تنساب كشلال حب ، قد انقطعت .
كنت اقتات على تلك المشاعر التي تربطني بحبال أمي ، ولا ادري غداً من أين سأقتات .
لماذا رحلتن سريعا هكذا ؟
فأنا ما زلت في نظر نفسي تلك الصغيرة التي تتطلع للداتها اللواتي يكبرنها قليلاً لكي يلون لوحة حياته بفرشاة الفرح .
أنأ أدرك أن الموت بوابة وعلينا جميعا أن نعبرها ، إلى حياة جديدة ، اخرى مختلفة ، وليس لنا في ذلك خيار ولا اختيار
نعم الموت ليس أختيار ، بالنسبة لمن يموت ، ولكنه اختيار الأحياء ، فكم حكمنا بالموت على شخص حي وأنهينا وجوده في حياتنا ، وكم من ميت مازال يعيش بيننا بذكراه ، بكلماته ، وصفحة وجهه التي تحتل خيالنا .
ولكن الموت حقيقة ، واقع يجب أن نتقبله ونتعايش معه … فأن تموت رفيقتي عمري فهذا يعني أنهما لم تعودا هنا ، افتح هاتفي المحمول ابحث عن رسالة أعرف أنها لن تصل ، أتطلع لهذا الخيط الرهيف الذي يصلني بقلوب تشاركت الحب معها ، ولكن الخيط انقطع ، نعم الصور ما زالت في مخيلتي ، الصوت مازال في أذنى ، ولكن ليس ثمة أحد هنا لقد رحلتا ، رحلتا معاً قبل أن أعانقهما ، رحلتا لتضع للغربة تعريف جديد في قاموس حياتي
رحلتا معاً ، عشرة أيام لا أكثر الفرق بينهما ، لم تتح لي الفرصة أن أمسح دموعي من البكاء على الأولى ، حتى كانت الثانية في غيبوبة عدة أيام ثم رحلت ، وأنا أقف هنا بعيداً عنهما ، ارقب رحيلهما ، وأقف على الحياد ، كما طفلة تعجز عن أي فعل ، تعجز حتى عن الوداع الأخير .